أشار بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي اغناطيوس يوسف الثالث يونان، في رسالة الصوم الكبير 2025، إلى أنّ "في مستهل رسالتنا وتأملنا بمناسبة زمن الصوم الكبير، نبتهل إلى الله كي يمن بالشفاء العاجل والتام على البابا فرنسيس، الذي يتلقى العلاج في المستشفى في روما".

ولفت إلى أنّ "الصوم الكبير زمن مقدس، توصينا أمنا الكنيسة أن نمارسه ونلتزم به، فهو زمن التوبة أي العودة النادمة إلى الله، بتطهير القلب وإعداده لاستقبال النعمة الإلهية، في مسيرة رجاء وثقة وصبر. والصوم، لكونه "انقطاعا" عن الطعام لفترة محددة من اليوم، تمتد من منتصف الليل حتى الظهر، ثم "قطاعة" تقوم على الاكتفاء بتناول الأطعمة الخالية من المنتجات الحيوانية، فهو وقت ملائم لإعادة النظر في نهج حياتنا الروحية، مستنيرين بهدي تعاليم الكتاب المقدس، فنمتلئ من فيض كلمة الله المحيية، مواظبين على الصلاة، وساعين إلى التوبة، وممارسين أعمال الخير والتقوى والتقشف، لنعود فرحين إلى أبينا السماوي: "إرجعوا إلي بكل قلوبكم" (يوئيل2: 12)".

وبيّن البطريرك يونان أنّ "هكذا نبلغ فصح الرب يسوع وقيامته الخلاصية: "لأننا في الرجاء نلنا الخلاص، ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء، لأن ما ينظره الإنسان كيف يرجوه أيضا؟ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره، فإننا ننتظره بالصبر" (رو8: 24-25)".

وذكر أنّ "في عالمنا اليوم، هناك شعور وكأن كل شيء يتدهور على الأصعدة كافة، ويسيطر الإحساس باليأس والإحباط على قلوب الكثيرين! وإذا ألقينا نظرة على تاريخ البشرية، لا بد وأن نقر بأن الدنيا لطالما كانت تتقاذفها أنواع من الأزمات المجتمعية والأخلاقية والسياسية من فترة إلى أخرى. وفي تاريخ بشريتنا المرهق بظلمة الخطيئة، نجد الأفراد والشعوب يصارعون الشر والظلم والمعاناة من الطغاة، سعيا لحياة عادلة وكريمة".

كما ركّز على "أنّنا نحن المؤمنين بمحبة أبينا السماوي وبعنايته بنا، نثق بأن الرب يسوع، الإله المتأنس الذي حل بيننا واتخذ بشريتنا، أعطانا الرجاء مفتاحا لسر الخلاص الذي تممه، هذا السر الذي يفوق كل إدراك بشري. فإذا قبلناه بإيمان ثابت ورجاء لا يتزعزع، لا شيء يغلبنا، بل نخرج دائما منتصرين مهما عصفت رياح الأزمات، لأننا وضعنا ثقتنا بغلبة مخلصنا الإلهي الذي وعدنا أنه سيبقى معنا إلى المنتهى".

وأوضح يونان أنّ "الرجاء -بالمعنى المسيحي- لا يعني التمسك بوهم إمكانية تغير الأشياء في المستقبل، إنما هو الحقيقة الأصدق التي نؤمن بها وندرك أنها ستتحقق، في حين لا نراها بالعين المجردة. الرجاء ليس الأمل بشيء يمكن أن نختبره بشريا، ثم تصدمنا الخيبة!، لأن "الرجاء لا يخيب صاحبه" (رو5: 5)، والإنسان الذي يؤسس حياته على الرجاء ويتسلح به، هو المنتصر دوما، إذ لا يمكن أن يخسر بمنطق الله وعهده"، مشيرًا إلى أنّ "هذا ما حدا البابا فرنسيس إلى الدعوة لعيش هذه السنة اليوبيلية 2025 كسنة رجاء في وسط بحر عالمنا الذي تتلاطمه عواصف الشر والأنانيات البشرية من كل جانب، واثقين بوعد الرب لنا بالخلاص والحياة الأبدية".

وشدّد على أنّ "الرب يدعونا الرب إلى عيش الرجاء على الدوام، وبشكل خاص في زمن الصوم الكبير، فمهما ضعفنا وشعرنا أننا عاجزون وفقدنا الأمل بإمكانية أن تتغير الأمور وتتحسن، ندرك أنه مع الله لا شيء مستحيل، هو الذي خلق الكون من العدم، وباستطاعته أن يخلق من الظلمة نورا، ومن الموت حياة، فالذي يضع رجاءه بالرب لا يخزى أبدا. لأنه، وعلى حد تعبير البابا فرنسيس، "بقوة محبة الله في يسوع المسيح، يحمينا الرجاء الذي لا يخيب (را. رو5: 5)".

واعتبر أنّ "الرجاء هو مرساة النفس، الأمينة والراسخة. وبالرجاء، الكنيسة تصلي حتى "يخلص جميع الناس" (1تيم2: 4)، وتنتظر أن تكون في مجد السماء متحدة بالمسيح عريسها" (نسير معا في الرجاء، رسالة الصوم لعام 2025).

إلى ذلك، أشار يونان إلى أنّ "في مسيرة صومنا، يرافقنا الرب بنعمه، وينير حياتنا، فلا نخاف من ظلمة العالم، بل نجدد ثقتنا كاملة بقدرته الإلهية، ونسلم له ذواتنا برجاء لا يتزعزع، أنه لا بد أن تبزغ شمس القيامة من عتمة الموت، وتمنح خلاصا في الوقت المناسب لكل إنسان يضع رجاءه بالرب، لأن "نصيبي هو الرب قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه" (مراثي إرميا3: 24). من هنا، وعلى حد قول البابا فرنسيس، إن الرجاء المسيحي لا يستسلم في الصعاب، فهو يرتكز على الإيمان، ويتغذى من المحبة، ويسمح لنا بأن نستمر في الحياة (را. مرسوم الدعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025)".

ورأى أنّ "زمن الصوم هو الوقت المقبول للإصغاء إلى كلمة الله كي تنقي قلوبنا وترشدنا وتقدسنا، إنه مسيرة روحية ترافقنا فيها النعمة الإلهية وتقوينا، مسيرة الحنين إلى الملكوت الأبدي، حيث الحرية الحقيقية والسعادة الدائمة. إنه الزمن المقبول للتوبة، أي العودة الصادقة إلى حضن أبينا السماوي وتجديدنا الروحي المستدام، من خلال السير مع يسوع في متاهات صحرائنا، لنعيش معه فرح الفصح (العبور) وغلبة القيامة الممجدة".

وأفاد بأنّ "في الصوم تغلب الروح ضعف الجسد، إذ تحثنا أن نتحرر من ربقة العالم وهمومه، كي نعود فنتأمل مليا وجه المسيح المصلوب طوعا بدافع محبته للبشر. لذا نحتاج في هذا الزمن إلى التخلي والتحرر من النزعة الاستهلاكية والأنانية والتذمر، ومن القلب المنغلق على الله والذات والآخر، لا سيما الأكثر حاجة. ولنتذكر ما كتبه يوحنا في رسالته أننا لا نستطيع الإدعاء بمحبة الله الذي لا نراه إن كنا لا نمارس محبة القريب الذي نراه! (را. 1يو4: 20-21)".

وشرح يونان أنّ "الصوم ليس مجرد ممارسة تقوية لفريضة، بل هو مسيرة روحية ملؤها الرجاء بالإنفتاح على تدبير الخلاص الذي تممه الرب يسوع. رجاء يتطلب منا أن نشارك مخلصنا في الشهادة لمحبته المبررة أينما دعانا، فنواجه تحديات العالم وإغراءاته، ونتغلب بنعمته على تجارب الحياة. وكم هو جميل أن يتلازم الصوم مع الصلاة الحارة والملحة، لأن الصلاة هي الجناح الثاني للصوم، وفيها نكلم الله أبانا، ونرفقها بتوبة صادقة مقرونة بمصالحتنا البنوية معه، وبالسعي الجاد لبناء علاقات المحبة مع القريب دون شروط. وفي الصوم، نتغذى بكلام الرب في الكتاب المقدس بنوع خاص: "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي" (مز119: 105)".

وأضاف: "كلمة الله ترشدنا في درب صومنا، وتعزينا في ضعفنا، وتذكرنا بأن رجاءنا ثابت في الرب وليس في طعام العالم، إذ أن الصوم الحقيقي يهدف إلى الأكل من "الطعام الحقيقي" أي العمل بمشيئة الآب (را. يو4: 34). ويكتمل هذا الغذاء بالتقرب المتواتر من سر الإفخارستيا، لتناول جسد الرب ودمه الأقدسين، وهكذا نحيا الأمانة لمواعيد معموديتنا".

وأكّد أنّ "الصائم لا يعيش الصوم كحزن أو حرمان، بل كمسيرة نحو الفرح، لأنه يثق أن الله، الذي هو "ستره وترسه" (را. مز119: 114)، يقوده إلى مجد أعظم: "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز126: 5). الصوم هو مدرسة نتعلم فيها كيفية الثقة بحكمة الله، متيقنين أن الحياة مع الله تتطلب الصبر، وأن الأمور العظيمة لا تأتي فورا، بل تستوجب انتظارا مليئا بالإيمان. وحين نصوم، ندخل في اختبار روحي يجعلنا نضع ثقتنا بالكامل في الله، حتى عندما يهدد الشر عالمنا وتكتنفه الظلمات".

ودعا يونان إلى أن "نسير زمن الصوم هذا بفرح غامر وبرجاء وطيد، مقتدين بأمنا مريم العذراء، والدة الله، التي سلمت حياتها بين يدي ابنها الوحيد، ربنا وإلهنا يسوع المسيح، رغم ظلمة الآلام والموت، مؤمنة برجاء وثقة بانتصاره الأكيد".

وختم: "في هذا الزمن المقدس، نصلي ضارعين إلى الرب كي يؤهلنا أن نسير معه مسيرة إيمان نختبر فيها أمانته ومحبته الفائقة، مستجيبين لدعوته لنا، بكامل الحرية البنوية. وهكذا نتحرر من كل ما يبعدنا عنه، ونتنقى، فنتجدد ونصل بيقين الرجاء إلى الفصح والقيامة".